الربيع السنغالي إلى أين؟ بقلم/ المفكر الإسلامي الأستاذ محمد غالاي انجاي – مدير معهد المحراب ببروكسل


 
يقول المثل الوُلَفِي السنغالي: "قارب المجنون لا يرسو، وإن رست لا يرسو حيث يرضي أقاربه"، يبدو جليا من الوهلة الأولى أن هذا المثل لا يشكل قاعدة مطَّردة، ونرجو أن يكون كذلك، لأن القارب يمثل بلدنا العزيز السنغال، والبَحَّار الذي يقوده هو ماكي سال الذي ألف المكائد السياسية والتقوقع داخل المعارك الحزبية الضيقة. إن هذا المثل، من منظوري الخاص، يرسم بدقة الحالة السيكولوجية للرئيس ماكي سال في الطريقة التي يقود بها السنغال، وبخاصة في تعامله مع "زعيم المعارضة" عثمان سونكو رئيس حزب باستيف! ولا جرم أن إزالة الحواجز التي نصبتها حكومة ماكي ظلما وجورا أمام منزل سونكو في حيِّ (كَرْ غُورْغِي) يُعتبر بادرة يمكن أن نقول عنها – مع تحفظ كبير – بأنها تُبشِّر بالخير وتوحي ببداية خروج السنغال من النفق المظلم الذي زجت فيه منذ قرابة سنتين. وعليه، نأمل بكل قلوبنا أن تتبعها خطوات سلمية جادة ومخلصة مثل إطلاق سراح كل السجناء السياسيين والتوقف نهائيا عن المحاولات المتكررة لعرقلة سونكو من الترشح لرئاسيات عام 2024م. على ما يبدو إن الرئيس ماكي سال بدأ يعي – ونرجو أن يكون كذلك – أن خطته المرسومة منذ البداية قد باءت بالفشل الذريع، وأنه من الآن فصاعدا سيشق طريقا آخر مغايرا مفاده أن يجد لنفسه مخرجا "مشرفا" بعد التيقن بنفاد كل حِيَله وتكتيكاته السياسية لإقصاء الزعيم المحنك عثمان سونكو عن الترشح لرئاسيات عام 2024م. ليس من شك في أن احتجاز الزعيم سونكو في منزله ومنعه عن الخروج لمدة 52 يوما هو تصرف جائر لم يُبن على أي حق شرعي، إنه لظلم شنيع واعتداء فادح على حق مواطن سنغالي دون أي مبرر قانوني اللهم إلا رغبة الحكومة في فرض القوة والدكتاتورية على معارض سياسيي يقض مضجعها لما يتمتع به هذا الأخير من كَارِزْم (Charisme) وشعبية عريضة غير مسبوقة في التاريخ السياسي السنغالي الحديث! 
السؤال المطروح بإلحاح والذي يتردد على كل الألسنة هو: هل عاد ماكي سال إلى رشده؟ هل سيرفض ماكي سال المُضي قدما في طريق الحسابات السياسية بعد أن أعلن نهاية حكمه؟ هل سيرسو قاربه إلى بر الأمان بعد هذه الخطوة الإيجابية التي قام بها؟ نعم نعترف بأنها خطوة إيجابية، لأن الرجوع من الحق خير من التمادي في الخطأ، والخروج من الضلال إلى الهدى لا شك شيء محمود. ومن هذا المنطلق نفول: هل يجب عليَّ الآن أن أرتدي ثوب نُوسْتراداموس (Nostradamus) لأتنبأ في مستقبل ماكي سال وحزبه وما سيقومون به من أعمال وتصرفات أم أبقى مجرد محلل للوضع السياسي؟ يظهر لي أن بينهما تقارب أو تداخل، ذلك لأن كل محلل متنبئ وإن لم يكن بالضرورة، وليس كل متنبئ محللا. على كل حال، إنه لفي صالح ماكي سال ألا يغامر ببقية حياته فيجعلها رهنا لمستقبل قاتم يحوم حوله شر مستطير!
يبقى الآن أن أسجل هنا أن الفضل الأكبر في إزالة الحواجز عن منزل سونكو يرجع إلى الشعب الذي وقف بجانب الزعيم سونكو بذكاء وحكمة وبشجاعة نادرة! في الحقيقة، فالشعب السنغالي لم يقع في الفخ الذي نصبته له حكومة ماكي سال. وهذا الوعي والنضج السياسي تتجليان في رؤية الشعب أن نزع الحواجز ليس معركة ضرورية ملحة بحيث يجب حتما خوض غمارها في تلك اللحظة، بل رأى فيه حربا جزئية لا طائل يرجى من ورائها، لأنها على كل حال لا تحسم الأمر نهائيا، وإنما رأى الشعب أن معركته القادمة لا بد أن تكون حتمية بحيث يكون الهدف الرئيس منها هو وضع حد نهائي لرئاسة ماكي وحكومته. لذلك تفادى الشعب لنفسه عن خوض معارك جزئية جانبية. لعلي أسجل هنا أيضا أن القاعدة العريضة من الشعب وسيما الشباب هم لأول مرة على امتداد التاريخ السنغالي الحديث نلفيهم أكثر وعيا بالمستقبل الواعد والمنتظر للسنغال وأكثر نضجا سياسيا من النخبة بكل أطيافها، ذلك لأن هذه النخبة وأخص بالذكر منها السياسيين ظلت تعتقد أنها ما زالت تتحكم في مُخيّلة الشعب وأن بيدها زمام كل العوامل والعناصر والحِيَل للاستمرار في العيش على حساب الشعب وامتصاص دماء أبنائه كما دأبت على ذلك وتعودت في السابق، أي منذ حصول السنغال على استقلالها المزعوم عام 1960م. وتأسيسا عليه، يمكن القول دونما تعسف إن نجم جيل السيستم الموروث قد أفل من غير عودة، وأن تشكيلة جديدة للعقل السنغالي قد تكونت بالفعل مع بروز الزعيم سونكو على المسرح السياسي. إنه جيل واع بمستقبله النهضوي، واعٍ أيضا بما تحتضنها أرضه من معادن وثروات ثمينة قادرة أن تحول دولتهم من حالتها البائسة التي يرثى لها إلى حال أفضل بكثير بحيث تحاذي دول الخليج في الرقي الاقتصادي ورفاهية سكانها من حيث الدخل وفرصة العمل، الخ. اللافت للنظر هنا هو أن هذا الجيل منذ أقل من عقد من الزمن أدرك مع الزعيم المعارض عثمان سونكو رئيس حزب باستيف فرصة عمره التي يستحيل تفويتها، بل يجب حتما اغتنامها مهما كلَّف الثمن. والملاحظ أيضا في وسائل الإعلام، وبخاصة في الشبكة العنكبوتية (internet) والواتساب (WhatsApp) والفيسبوك (Facebook) وتيك توك (TikTok)، ... هو عزم هذا الجيل وحزمه الشديد على إحداث قطيعة مع نموذج السيستم السياسي الموروث وأهله. بعبارة أخرى إن تفاعل هذا الجيل مع الواقع السنغالي وبخاصة تمظهراته على الصعيد السياسي تَنِمُّ إلى حدٍّ بعيد عن نشوء ربيع سنغالي غير مسبوق ربما أكثر وعيا في ذهنية حامليه من الربيع الذي عُرف في بعض البلاد العربية في العقد الماضي. لذلك لن نتعجب إنْ وقف المرء حيرانا أمام هذا الجيل الأبيِّ الذي صمَّم على أخذ مصيره بيده بكل مسؤولية ووعي. ومن هنا يحق لي أن أؤكد أن الأجواء المتوترة والاضرابات السياسية العنيفة التي عاشها الشعب السنغالي في الآونة الأخيرة، وبالتحديد منذ مارس 2019م إلى هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها، قد هيأت الأسباب والظروف لاستشكال، من منظور القيم والأخلاق، طبيعة العلاقة بين النخبة السياسية السنغالية والاحتراف السياسي، وكذلك علاقة رجال الدين (أعني البيوتات الدينية والطرق الصوفية، ...) بالسياسة،بل اسهمت الى حد بعيد في عدم لجوء الشعب إلى المرجعيات الدينية التقليدية لحل مشكلاته وأزماته السياسية. ذلك لأن سونكو نجح من وجهة نظري في إعادة بناء كلمة السياسي في أدمغة شريحة كبيرة من السنغاليين، بتعبير آخر ما فعله سونكو ليس إلا بناء العمل السياسي (الاحتراف السياسي) على القيم والأخلاق، لا كما تم ترويج كلمة السياسية بأنها غابة حالكة وخطيرة لا يسود فيها إلا أوغاد احترفوا الغدر والمكر والكيد والكذب وخلف الوعد والخيانة، واستخدام الخطب الرنانة والبراقة، الخ. بحق إن السنغال، في وقتيتنا الراهنة، تمر بانعطاف تاريخي-سياسي استثنائي، بعبارة أخرى السنغال أمام بَارادِيغم (نموذج فكري أو أيدلوجي) جديد، أي جيل من طراز آخر أكثر وعيا ونضجا، جيل أدرك المسؤولية التاريخية، جيل قادر على المخاطرة من أجل مستقبله، بل على بذل روحه من أجل التنمية والنهضة والالتحاق بركب الحداثة. إن الزعيم سونكو سياسي محنك لا يشق له غبار قد استطاع بجدارة أن يوقظ الشعب السنغالي من سباته العميق ويُبصِّره بمستقبله القريب، أي ما ينتظره من رفاهية ورغد عيش وتنمية بكل معنى الكلمة! في الحقيقة إن الحلم الذي باعه الزعيم سونكو للشعب السنغالي وسيما للشباب – وأتمنى أن يتحقق على أرض الواقع - يُشكل البؤرة التأسيسية لهذا الباراديغم الجديد. وفي هذا السياق أرتئي ضرورة إنشاء ورشة علمية جديدة ندعو فيها مفكري السياسة وعلماء الاجتماع وكل من على شاكلتهم لدراسة ليس فقط هذا النمط الجديد من الزعامة السياسية الذي أحدثه السيد عثمان سونكو في المجتمع السنغالي وما له من تأثيرات، وكذا مآلاته في الغرب الأفريقي، بل في كل أرجاء أفريقيا، وإنما أيضا تفاعل الشعب ومدى وعيه ونضجه تجاه هذا النمط الجديد، وكل ما يمت إليه بصلة من قريب أو من بعيد.            
وانطلاقا مما سلف يبدو أن عهد ماكي سال قد ولَّى من غير رجعة، وذلك في اللحظة التي أعلن فيها عن عدم ترشحه لرئاسيات عام 2024م. فمن ساعتها إلى اليوم نلحظ إخفاقات في خططه: لقد رفض نواب البرلمان تبني البند 87 من القانون الذي يخول للرئيس حل البرلمان متى ساغ له ذلك. وكذلك تريثه حتى الآن عن إعلان أو تعيين مرشح من حزبه لقيادة ائتلافه لخوض رئاسيات 2024م. وأخيرا موافقته على إزالة الحواجز التي أقيمت أمام منزل الزعيم عثمان سونكو دون أي حق شرعي. هذا بالإضافة إلى الزوبعة والخلاف والتناحر التي انتشرت في الآونة الأخيرة داخل حزبه وائتلافه انتشار النار في الهشيم. وحتى أنصار ماكي سال وحزبه (APR) يدركون اليوم أنه، أي الرئيس لم تعد له الكلمة المسموعة والطاعة العمياء كما كان في السابق، لذلك لا أعتقد أن أحدا من أنصاره وسيما الانتهازيين منهم من سيغامر بحياته أو يراهن بمستقبله للدفاع عن رئيس سيتنحى عن الحكم في غضون 7 أشهر أو أقل. فالرئيس ماكي سال في هذه اللحظة الحرجة والعصيبة التي يمر بها قد عزل نفسه بنفسه فصارت سلطته هشة، بل أضحت أوهن من بيت العنكبوت! ومن هذا المنحى يمكن القول إن ماكي سال لم يعد أمامه إلا خيار السِّلم والحوار، أي محاولة جادة ومخلصة من طرفه للخروج من باب يُشرِّفه ويشرف الأشهر الباقية له على كرسي الرئاسة، وإلا أخشى أن يكون له مصير غير محمود. وفي نهاية المطاف على ماكي سال أن يدرك أن الدنيا يومان، يوم لك ويوم عليك، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [أل عمران: 140]، وعلى من سيخلفونه نذكرهم بقوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 140].       
 

مشاركة الخبر

الأخبار المتعلقة

تعليقات

لا يوجد تعليقات