رفعت الأقلام وجفت الصحف، جوماي الرئيس الخامس!؟ ...بقلم/ المفكر السنغالي البروفيسور محمد غالاي انجاي –مدير معهد المحراب ببروكسل،

 
إن للسياسية مناورات وألاعيب، بل وأعاجيب لا يعقلها إلا المتمرسون والمتوسمون! فمنذ تألق نجم زعيم المعارضة عثمان سونكو في المعترك السياسي وأنا أكتب حول الأحداث السياسية الجارية في السنغال. فيطيب لي أن أؤكد لكم أن نبوءتي من غير مواربة قد تحققت فعلا، وكذلك نبوءة ثلة من المستطلعين والخبراء السياسيين السنغاليين وغيرهم في شأن رئاسيات عام 2024م. كنتُ قد كتبتُ في مقالة لي في 14 يونيو 2023م، ونشرت في العديد من المجلات والجرائد، وفي المنصات في الشبكة العنكبوتية، ما يلي: «الاحتجاجات الأخيرة أظهرت بشكل لا يكتنفه الغموض أنه من المستحيل جدا أن تُنظَّم انتخاباتٌ رئاسية في السنغال عام 2024م دون مشاركة الزعيم عثمان سونكو (أي حزب باستيف)، إلا إذا نُظمت خارج تربة السنغال أو في مخيلة البعض من أنصار الحزب الحاكم أو عبر الواتساب. والشخص الوحيد الذي ليست له أحقية المشاركة فيها هو الرئيس مالكي سال. ويجب عليه حتما ومن غير مماطلة أن يرد الحقوق إلى أصحابها من أمثال السيد كريم واد، والسيد خليفة أبابكر صال، وأن يطلق سراح جميع السجناء السياسيين».   
بحق، لم تكن نبوءة يصعب على "العقل السياسي" افتراض تحقيقها إلا ما كان من أحداث طارئة في الآونة الأخيرة حين نجحت حكومة الدكتاتور ماكي سال في وضع الزعيم عثمان سونكو وراء القضبان. وقد تمخض عن ذلك بشكل مباشر وجود اضطرابات وشكوك وحيرة وحزن وأسى في صفوف حزب باستيف، كما تخيم ظلام صامت على أدمغة العديد من أنصار هذا الحزب عن مستقبل زعيمه والمشروع الباستيفي، لاسيما حين قام النظام الحاكم بحل الحزب وشرع دون هوادة في مطاردة الباستيفيين في كل واد وناد وزجهم في السجون والقيام بتعذيب وتنكيل العديد منهم. وإثر هذه الأحداث المؤلمة والاعتداءات التي جاوزت حدود العقل والقانون كتبتُ أيضا – بإيمان ويقين تامين – مقالة قلت فيها: «إنما يكسب الحرب من هو أكثر استعدادا لها، لا عيب في أن تخسر معركة، ولكن العيب كله أن تخسر الحرب. إن المعركة، في واقع الأمر، جارية بين الرئيس الماكر والزعيم المعارض المخادع، ماكي الماكر وعثمان المخادع، و"الحرب خدعة"». 
لا أحد يمتري، في الوضع الراهن، أن عَلَمَ الخدعة والاستخراجية السياسية قد أطاح بعَلَمِ المكر والكيد الخسيسين. لقد خرج عثمان سونكو و"توأمه السياسي" من السجن بعدما شكلا بطاطة حارة في حلق ماكي سال. لقد ابتلع هذا الأخير زعيمَ باستيف ولم يستطع أن يتجرعه، بل بقي لقمة غير سائغة في حلقه، وعقبة كأداء في طريق مسدود من كل الجهات. فكان لا بد من ماكي سال أن يعترف بفشله وإخفاقه التام في كل مناوراته وتكتيكاته السياسية. لم يكن ليبقى أمامه إلا إعادة النظر في كل أوراقه السياسية التي لعب بها إلى ذلك الحين، بل لم يبق له إلا شطبها كلها وضربها عرض الحائط والخروج بأوراق جديدة وهندام جديد. في هذه المرة لن تكون بؤرة اللعبة عنده المكر والكيد ضد حزب باستيف وزعيمه، ولكن كيف يسلم هو وأهله وبعض أوغاد عصابته بعد انتهاء صلاحية ولايته في 02 أبريل 2024م القادم. إن الخروج من القصر الرئاسي دون تأمين نفسه وأهله وبعض عملائه في الشرطة والقضاء وفي بعض أجهزة الدولة هو عين التجاسر بحياته والحكم على نفسه وذويه بالإعدام شنقا. فكان لا بد من أن يفرض ماكي سال خطة "العفو الخاص" (amnistie)، الذي في الحقيقة كان في صالح الطرفين المتنازعين، أعني الحزب الحاكم وحزب باستيف المنحل للخروج نهائيا من الأزمة السياسية التي خنقت البلد وقوضت دعائمه ردحا من الزمن. ومن هنا يتساءل المرء هل الضحايا والمصابون ومن كابدوا ويلات السجون أثناء هذا العراك السياسي بين النظام الحاكم وحزب باستيف هم فعلا الخاسرون الحقيقيون أم أن النتيجة الواعدة التي تلوح في الأفق ونتحيّن لها هي الثمن الباهظ الذي كان لا مفر من دفعه. ومن هذا المنطلق أرتئي أن المناورات الفاشلة والخسيسة التي تلبست بها يد حكومة ماكي سال قد ساعدتني بكل تأكيد في فهم مقولة فلاديمير لينين الشهيرة: «في السياسة لا يوجد فرق بين خيانة بسبب الغباء أو خيانة بشكل متعمد ومحسوب».     
فما يجب أن يتنبه له الجميع هو أن مآلات اللعبة السياسية في هذه الرئاسيات المزمع عقدها في 24 مارس 2024م القريب باتت واضحة وضوح القمر ليلة البدر. إن فوز جوماي بات لا غبار عليه، كما أن خسارة أمادو باه أمست لا ينتطح فيها وعلان. ومن مؤشرات فوز جوماي أمور لا تخفى إلا على قصار النظر والباع، نذكر نُتفةً منها: 
-    إن فرض ماكي سال "العفو الخاص" كان السبب الرئيس الكامن وراءه هو الإفلات هو وأهله من دخول السجن بعد انتهاء ولايته والتنصل من سيف الانتقام الذي رفعه حزب باستيف على رقبته في حال فوزه في الرئاسيات القادمة. 
-    رفض ماكي سال وتقاعسه عن قيادة موكب أمادو باه لخوض الجولة الانتخابية بجانبه في الميدان وكذلك عدم الانتصار له في تصريحاته، كل ذلك يشكل أكبر دليل على تيقنه التام بالخسارة الفادحة التي ستلحق بمرشحه الهزيل مساء صدور النتائج وتطاير الصحف. لا شك أن أمادو باه الملياردير المشبوه في ثروته سيتمرغ التراب أمام منافسه بشير جوماي فاي، الرجل النزيه المتواضع، أمل الشباب في التغيير المنشود. 
-    إن كل مقرات حزب (APR) في الوقت الراهن تم غلقها ولم توضع في يد مرشحه المزعوم، أعني أمادو باه ليستفيد منها ويتخذها كنقطة للانطلاق والاستعداد في الانتخابات وكبؤرة لتكديس الميليشيات وتزويدها بالهراوات والسكاكين والمدافع، كما ألفنا من الحزب سابقا. 
-      الهجوم والهجوم المضاد الذي نشاهده ليل نهار في صفوف حزب (APR)، هؤلاء يوالون هذا، وأولئك لذاك، حرب شرسة بين كوادره وبين أذنابهم، كل ذلك يعتبر مؤشرا آخر يدل دلالة قاطعة على وهن عصيهم وتنافر قلوبهم وتشتت هممهم!!!  
وتأسيسا على كل ما سلف، فمن المفيد أن نذكر بأن العالم بأسره يتابع الأحداث الجارية في السنغال عن كثب، وذلك لما لهذه الرئاسيات من أهمية قصوى تاريخية ومصيرية وحتمية من أصعدة شتى سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي، إنها انتخابات ترتسم في المخيال الجمعي في السنغال وفي أفريقيا بالذات بأنها الفيصل بين خيار التواصل أو القطيعة، بين خيار الحرية أو التبعية، بين خيار التأخر والفقر أو التقدم والرقي، بين خيار الالتحاق بركب الحداثة أو العيش عالة عليها. إنها في الواقع انتخابات يقع عليها أمل شعب بكامله يريد أن يغير واقعه الأليم المعيش. نعم، هي انتخابات قادرة على إخراج السنغال من مأزق التأخر ومن نفق الفقر المدقع الذي زجت فيه ومن العوز الاقتصادي الذي فرض عليها وترنحت بين أحضانه منذ حصولها على الاستقلال المزعوم عام 1960م، وبالمقابل يمكن أن تفتح أمام أبنائها آفاقا جديدة للتألق والصعود نحو سماء النمو والرفاهية الاقتصادية، وذلك لما تحتضن تربتها من ثروات ثمينة ولما تمتلك أيضا من كفاءات بشرية متاحة. لقد آن لأبناء هذا الشعب أن يرفعوا رؤوسهم معززين ومكرمين، وكذلك لسائر أبناء البلدان الأفريقية، ولا يتواروا من الشعوب المتقدمة من أجل دعوى نحس كاذب حل بجدهم المزعوم حام بن نوح. ولعلي أشير هنا أيضا إلى أن من خصوصيات ومميزات هذه الانتخابات هي أنها غير مسبوقة من نوعها، فلأول مرة في تاريخ السنغال سيصوت الشعب من أجل مشروع واضح المعالم تم عرضه عليهم على مدار سنوات، شعاره: "حان وقت إرجاع ما يَشترِكُ فيه الجميع إلى الجميع". كما أن هذه الانتخابات لم يرجح في كفها شيخ فلان ولا قبيلة علان، ولا طريقة زيد أو جماعة عمرو، الشعب والشعب فقط هو الذي سيختار ويَبُتُّ في الأمر لا غيره. ومن هذا المنظور هل يحق لنا القول إن الشعب السنغالي قد أفاق من سباته العميق وقد أدرك سن الرشد والنضج في اختيار ولاته وممثليه السياسيين بشكل مناسب وبحرية تامة ومسؤولية. وهل هذا النضج السياسي للشعب السنغالي الأبي ينسجم مع ما ألمح إليه شارل ديغول الرئيس الفرنسي الأسبق حين قال: «لقد توصلت إلى قناعة مفادها أن السياسة أمر أكثر جدية من أن يُترك للسياسيين». وهل يحق لنا أيضا أن نقول إن هذه الانتخابات ستكون ترجمة حقيقية وواقعية للتجربة الديمقراطية السنغالية في أسمى صورها ومستوياتها في تاريخ السنغال الحديث. لا شك أن ثمة تساؤلات عديدة ومتنوعة تطرحها هذه الانتخابات الفريدة من نوعها إلا أن المقام لا يتسع لحل منغلقاتها وتقديم تفسيرات وجيهة وواقعية. فما أؤمن له هو أن دورة حزب (APR) في مزاولة السلطة قد كملت، قد أفل نجمه وانطمس. لقد كابد الشعب من ويلاته ما لم يكابد في كل النظم السابقة من سنغور إلى عبد الله واد. لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان. إن موعدنا الصبح، أليس الصبح بقريب. رفعت الأقلام وجفت الصحف. صفحة جديدة إن شاء الله في دفتر السنغال ستفتح، وَيَوْمَئذ يفرح المؤمنون بنصرهم، وستنطق لسان حالنا قائلة: كانت بحق مغامرة طويلة، عويصة، مؤلمة، فجيعة، ها نحن نقلب الصفحة ببهجة وسرور وفرح عارم ترتسم في وجوهنا تُنسينا مرارة الألم التي كابدنا مرارتها وويلاتها عبر هذه المسيرة الطويلة الشاقة من أجل الحرية. إنها مجرد سويعات قليلة وسيسفر علينا الصبح ويطل علينا يوم جديد وسنغال جديدة، يعيش فيها أبناؤها أيامهم الواعدة والموعودة ومجدهم المفقود وسيما عزهم المداس الذي طالما تاقوا إليه. وقد قال قديما الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير: «من الخطير أن تكون على حق عندما تكون الحكومة على خطأ». والملفت للنظر هو أن هذه الانتخابات تمثل في أعين الكثير من السنغاليين ثورة الحق ضد الباطل، ثورة العدل ضد الطغيان، ثورة الأشراف ضد الأوغاد، ... ولا ننس الفضل لمن كان السبب الرئيس في التضحية والبسالة، أعني الزعيم المغوار والسيد الهمام عثمان سونكو مُوسَلْمِ. ولعل قول شارل ديغول يصدق فيه: «رجل السياسة الحق هو ذلك الذي على استعداد للمخاطرة».   
وفي آخر المطاف فما نوده ونأمله بكل قلوبنا هو أن يدشن على أنقاض هذا النظام الفاسد المحتضر بناء محكم يؤسس لقيام دولة عصرية قوية بمؤسساتها تذوب فيها العرقيات المنتنة، وتولد التماسك والالتحام الاجتماعي، وتتم فيها إدارة الثروات بكفاءة وعدل وإنصاف، وتُنتج التقدم والرفاهية الاقتصادية. تحيا السنغال، السنغال إلى الأبد.     

مشاركة الخبر

الأخبار المتعلقة

تعليقات

لا يوجد تعليقات