تغير المناخ: الالتزامات البيئية والتنمية وحقوق الإنسان .. د/ عبدالمنعم صدقي مركز البحوث الزراعية ـ مصر


يمثّل تغير المناخ أحد أعقد التحديات التي تواجه المجتمع الدولي في العصر الحديث، نظراً لتأثيراته المتشابكة التي تطال البيئة، والاقتصاد، والتنمية، وحقوق الإنسان. وقد أدى تنامي هذه الظاهرة إلى دخولها بقوة في صلب الخطاب القانوني الدولي، ليس فقط كقضية بيئية، بل كمسألة ذات أبعاد إنسانية وعدلية وتنموية. وأمام هذا الواقع، يبرز تساؤل جوهري: هل يمتلك القانون الدولي القدرة والمرونة الكافية للتعاطي مع تغير المناخ بوصفه تهديدًا شاملًا متعدد الأبعاد؟
1- تغير المناخ كإطار قانوني دولي
برزت الحاجة إلى تنظيم قانوني دولي شامل لمواجهة التغير المناخي منذ عقود، وقد تُوّجت هذه الجهود باتفاق باريس للمناخ لعام 2015، الذي يُعَدّ أبرز وثيقة قانونية بيئية معاصرة. وقد تبنّى الاتفاق نهج "المسؤولية المشتركة ولكن المتفاوتة"، وأرسى نظامًا من التعهدات الطوعية القابلة للمراجعة كل خمس سنوات، وهو ما يمثل تحولًا من الأطر الإلزامية التقليدية نحو نماذج أكثر مرونة وشمولية.رغم ذلك، يواجه الاتفاق عددًا من الانتقادات الجوهرية، أبرزها غياب آليات إلزام قانونية واضحة، وعدم كفاية الدعم المالي والتكنولوجي الموجه إلى الدول النامية، على الرغم من النص على ذلك صراحةً في المادة التاسعة. وهو ما يعكس محدودية القدرة التنفيذية للقانون الدولي البيئي، خاصة في ظل الفوارق الاقتصادية والسياسية بين دول الشمال والجنوب.
2-التغير المناخي والتنمية المستدامة
يمثل تغير المناخ تهديدًا مباشرًا لأهداف التنمية المستدامة، خاصة تلك المتعلقة بالقضاء على الفقر، والأمن الغذائي، والصحة، والمياه، والعمل اللائق. وعلى الرغم من أن الهدف الثالث عشر (العمل المناخي) يركز على تعزيز قدرة الدول على التكيف والتخفيف من آثار التغير المناخي، إلا أن هذا الهدف لا يمكن فصله عن باقي الأهداف، لما للمناخ من تأثيرات متداخلة على جميع جوانب التنمية.
تواجه الدول النامية صعوبات حقيقية في تنفيذ التزاماتها المناخية دون الإضرار بأولوياتها التنموية. فبينما تدعو السياسات المناخية إلى الحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري، فإن العديد من الدول الفقيرة ما تزال تعتمد عليه كمصدر رئيسي للطاقة والنمو الاقتصادي. وهو ما يستدعي إعادة التفكير في العلاقة بين السياسات البيئية ومتطلبات العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
3- البُعد الحقوقي لأزمة المناخ
لم يعد التغير المناخي مجرد قضية بيئية بل أصبح قضية حقوقية بامتياز، حيث يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على عدد من الحقوق الأساسية المعترف بها في القانون الدولي لحقوق الإنسان، كحق الحياة، وحق الصحة، وحق الحصول على الماء والغذاء والمأوى. وقد أكد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على هذا الربط في أكثر من مناسبة، معتبرًا أن الأضرار البيئية الجسيمة قد تشكل انتهاكًا فعليًا لحقوق الإنسان.
ومن أبرز التطبيقات القضائية لهذا التوجه، قضية "Urgenda" في هولندا، حيث اعتبرت المحكمة أن تقاعس الدولة في خفض الانبعاثات يُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، ما رسخ مبدأ "الواجب الإيجابي للدول" في حماية المناخ ضمن الإطار الحقوقي.
4-تغير المناخ والهجرة القسرية
أدى التدهور البيئي والتغير المناخي إلى بروز ظاهرة "النزوح البيئي"، حيث يُجبر الملايين على مغادرة أماكن إقامتهم نتيجة الجفاف، الفيضانات، أو ارتفاع منسوب البحار. وتقدّر الدراسات أنه بحلول عام 2050 قد يتجاوز عدد النازحين داخليًا بسبب التغير المناخي 200 مليون شخص. ورغم جسامة هذه الظاهرة، إلا أن القانون الدولي للاجئين، كما هو محدد في اتفاقية جنيف لعام 1951، لا يعترف بـ"اللاجئ البيئي" بوصفه فئة قانونية متميزة.
هذا الغياب التشريعي يدفع نحو المطالبة بتوسيع مفهوم اللجوء، أو على الأقل وضع بروتوكولات دولية أو إقليمية تضمن حماية قانونية للفئات المتضررة من الكوارث المناخية، بما يضمن الحد الأدنى من الكرامة والحقوق الإنسانية لهؤلاء النازحين.
5- العدالة البيئية والتجارة الدولية
في ظل محاولات بعض الدول تبني سياسات بيئية أكثر صرامة، يبرز التوتر بين هذه السياسات ومتطلبات النظام التجاري الدولي. إذ قد يُنظر إلى بعض الإجراءات البيئية كعقبات أمام التجارة أو كتدابير حمائية غير مبررة. من هنا، بدأت الاتفاقيات التجارية الحديثة، مثل اتفاقية التجارة الحرة بين كندا والاتحاد الأوروبي (CETA)، بدمج فصول بيئية تُراعي المعايير المناخية دون الإخلال بمبادئ حرية التجارة.
ويُعد إدماج الاعتبارات البيئية في النظام التجاري العالمي خطوة نحو تحقيق التوازن بين حماية المناخ واستمرار النشاط الاقتصادي، لكنه لا يزال محل جدل بين الدول المتقدمة والنامية، نظرًا لتفاوت القدرات والإمكانات.
6- مساءلة الفاعلين عن الأضرار المناخية
تتزايد الدعوات في الأوساط القانونية والأكاديمية نحو مساءلة الشركات الكبرى والدول عن الأضرار المناخية التي تُلحقها بالبيئة والمجتمعات. وفي هذا الإطار، طُرحت فكرة إدراج جريمة "الإيكوسايد" (Ecocide) ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، بوصفها جريمة جسيمة ضد البيئة.
ورغم أن هذه الجريمة لم تُدرج بعد رسميًا ضمن نظام روما الأساسي، إلا أن الاهتمام المتنامي بها يعكس وعيًا عالميًا متزايدًا بضرورة تعزيز آليات الردع والعقاب للجهات التي تتسبب عمدًا أو إهمالًا في دمار بيئي واسع النطاق.
إن التغير المناخي ليس مجرد أزمة بيئية، بل هو تحدٍ قانوني وإنساني وتنموي بامتياز. ورغم ما تحقق من تطورات على صعيد الاتفاقيات الدولية، فإن النظام القانوني الدولي لا يزال بحاجة إلى مراجعة شاملة تتسم بالشمول والعدالة والفعالية. ويتطلب ذلك تكاملًا حقيقيًا بين القانون الدولي البيئي، وقانون حقوق الإنسان، وقانون التنمية المستدامة، لضمان استجابة عادلة وشاملة لهذه الأزمة المتعددة الأبعاد، وحماية كرامة الإنسان والبيئة في آنٍ واحد.

مشاركة الخبر

الأخبار المتعلقة

تعليقات

لا يوجد تعليقات