كل ومضة بثمن : كيف نحرق موارد الأرض دون أن نشعر؟ إعداد دكتور /عبدالمنعم صدقي أستاذ بمركز البحوث الزراعية

 

أصبحت الطاقة جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، من الإضاءة والتدفئة إلى تشغيل الأجهزة المنزلية والسيارات والاتصالات. ومع ذلك، فإن أنماط الاستهلاك الحالية تُظهر فجوة كبيرة بين الحاجة الفعلية والاستخدام الفعلي للطاقة. إن السلوكيات البسيطة مثل ترك الإضاءة وأجهزة التكييف تعمل في غرف غير مستخدمة، أو الاعتماد الزائد على الأجهزة الكهربائية عالية الاستهلاك، تسهم في زيادة فاتورة الطاقة الفردية ورفع الانبعاثات الكربونية بشكل مباشر. كل كيلوواط/ساعة من الكهرباء المنتجة من الوقود الأحفوري يطلق في المتوسط 0.5  كجم من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ما يجعل الاستخدام الفردي للطاقة مرتبطًا مباشرة بتغير المناخ.
تتعدد أشكال الاستهلاك المفرط للطاقة على المستوى الفردي، لتشمل أنماطًا يومية متكررة تؤدي إلى هدر كبير في الموارد وزيادة في الانبعاثات الكربونية. ففي المنازل، يُعدّ الاستخدام المفرط لأجهزة التكييف والتدفئة من أبرز صور الإسراف الطاقة  إلى جانب تشغيل الإضاءة والمياه الساخنة دون حاجة فعلية، ما يرفع من معدلات استهلاك الكهرباء ويزيد العبء على شبكات الطاقة. أما في قطاع النقل، فيُسهم الاعتماد المبالغ فيه على السيارات الخاصة بدلًا من المواصلات العامة أو وسائل النقل المستدامة في زيادة استهلاك الوقود الأحفوري، وما يترتب عليه من انبعاثات ملوثة للهواء ومفاقمة للاحتباس الحراري. كما برز في السنوات الأخيرة نوع جديد من الاستهلاك المفرط يتمثل في الأنشطة الرقمية، حيث يؤدي الاستخدام الطويل للأجهزة الإلكترونية (الهواتف الذكية والحواسيب وشاشات البث ) إلى استهلاك غير ملحوظ للطاقة الكهربائية، سواء على مستوى الأجهزة الفردية أو مراكز البيانات الضخمة التي تدعمها. وتشكّل هذه الممارسات مجتمعة نمطًا استهلاكيًا متسارعًا يتطلب إعادة توجيه نحو كفاءة الطاقة وترشيد استخدامها بما يتسق مع أهداف التنمية المستدامة.
تُظهر انعكاسات الإسراف في الطاقة أبعادًا متعددة تمس البيئة والاقتصاد والمجتمع على حدّ سواء. فمن الناحية البيئية، يؤدي الاستخدام المفرط للطاقة، خاصة المولدة من الوقود الأحفوري، إلى ارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، مما يساهم في تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري وتفاقم التغيرات المناخية وما يصاحبها من اضطرابات بيئية كارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد وتراجع التنوع الحيوي. أما من الناحية الاقتصادية، فإن تزايد الطلب على الطاقة يرفع من تكاليف الإنتاج والاستيراد ويزيد الأعباء المالية على الحكومات، خاصة في الدول التي تعتمد على الوقود المستورد لتلبية احتياجاتها، مما يؤدي إلى اختلال في ميزانيات الدول وتراجع الاستثمارات في قطاعات التنمية الأخرى. وعلى الصعيد الاجتماعي، يُسهم الإسراف في الطاقة في توسيع الفجوة بين الفئات الاجتماعية، إذ يصعب على ذوي الدخل المحدود تحمّل تكاليف الطاقة المتزايدة، الأمر الذي يهدد مبدأ العدالة في الحصول على الخدمات الأساسية ويؤثر سلبًا على جودة الحياة. ومن ثمّ، فإن مواجهة هذه الانعكاسات تتطلب تبني سياسات رشيدة لترشيد الاستهلاك وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة ضمن إطار التنمية المستدامة.
تتطلب مواجهة ظاهرة الإسراف في الطاقة حزمة من الإجراءات المتكاملة التي تجمع بين التوعية المجتمعية والتطبيق العملي للتقنيات الحديثة والسياسات المستدامة. ويأتي في مقدمة هذه الإجراءات نشر ثقافة "الكفاءة الطاقية" بين الأفراد والمؤسسات، من خلال تشجيع استخدام الأجهزة الكهربائية ذات التصنيف الأعلى في كفاءة استهلاك الطاقة، وتوعية المستهلكين بأهمية ترشيد الاستخدام وتجنّب الفاقد غير الضروري. كما يُعد التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة (الشمسية - الرياح )  خيارًا استراتيجيًا على المستويين المنزلي والمؤسسي، حيث يسهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.  يمثل تشجيع النقل المستدام أحد المحاور الجوهرية في الحد من الهدر الطاقي، من خلال تعزيز استخدام الدراجات والمواصلات العامة وتطوير البنية التحتية للنقل الصديق للبيئة. إن تبنّي هذه الإجراءات بشكل متكامل يسهم في تحقيق كفاءة الطاقة، وتقليل الأثر البيئي والاقتصادي للاستهلاك المفرط، ودعم التحول نحو مجتمع أكثر وعيًا واستدامة.

مشاركة الخبر

الأخبار المتعلقة

تعليقات

لا يوجد تعليقات