أتظنُّ أنكَ عندمـــا أحـــرقتنــي... قد طمستَ هويتي؟ : مهدي عقبائي کاتب إيراني وعضو في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانیة


يأتي الخبر الرسمي من طهران، ليس كطعنة خنجر في الخفاء، بل كإعلان وقح عن جريمة مستمرة: أعلن نائب خدمات المدينة في بلدية طهران، داود جودرزاي، عن تحويل القطعة 41 في مقبرة "بهشت زهرا"، المعروفة بين الإيرانيين بـ"الأرض الملعونة"، إلى موقف للسيارات. هذا ليس مجرد قرار إداري، بل هو تتويج لأربعة عقود من الحرب الشرسة التي يشنها النظام الإيراني ضد الذاكرة، في محاولة يائسة لمحو آثار أفظع جرائمه: الإبادة الجماعية لآلاف السجناء السياسيين في صيف عام 1988.
لكي نفهم فداحة تحويل قبور الشهداء إلى أسفلت تدوسه السيارات، يجب أن نعود إلى ذلك الصيف الدامي. في ظل صمت دولي مريب وسياسة "المساومة" التي منحت الجلاد ضوءاً أخضر، أصدر الخميني فتواه بقتل كل سجين سياسي يقف صامداً على مبادئه. تشكلت "لجان الموت" التي كان من أبرز أعضائها مجرمون مثل إبراهيم رئيسي وحسين علي نيري، وانطلقت في ممرات سجون إيفين، وجوهردشت، وقزل حصار، وسائر السجون في المحافظات والمدن في جميع أنحاء البلاد.
كان القتلة يصولون ويجولون فوق رفات الشهداء، بعد محاكمات لم تدم سوى دقائق. كانت الوحشية تفوق كل وصف؛ كانوا يُلقون بجثث الشهداء في شاحنات التبريد التي أُعدت لنقل اللحوم، وكان السجناء الناجون يعدون عدد رفاقهم الذين استشهدوا من خلال صوت ارتطام أجسادهم الطاهرة في صندوق الشاحنة. لقد ظنوا أنهم بدفنهم في مقابر جماعية مجهولة، سيتمكنون من دفن الحقيقة معهم إلى الأبد.
لكن المقاومة الإيرانية لم تصمت لحظة. في ذروة تلك المجازر، بعث قائد المقاومة، مسعود رجوي، برسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، كاشفاً عن حجم الجريمة المروعة وطالباً التدخل الفوري لوقفها. ولكن للأسف، كانت سياسة المساومة والمسايرة الدولية هي السائدة، فاستمرت آلة القتل في حصد الأرواح.
ورغم ذلك، لم تمت الحقيقة. فبعد تلك الأيام الحالكة، تحولت المقاومة إلى "حركة مقاضاة" منظمة وشاملة. انطلقت هذه الحركة التي قادتها ببراعة وشجاعة السيدة مريم رجوي في عام 2016، وتزامن انطلاقها مع الكشف عن شريط صوتي صادم لآية الله منتظري، الذي كان خليفة الخميني قبل أن يعزله بسبب احتجاجه على هذه المذبحة الوحشية. في هذا التسجيل لاجتماعه مع "لجنة الموت" المسؤولة عن المجزرة، كشف منتظري عن حقائق مروعة، ووجه لهم هذه الكلمات الحادة التي خلدها التاريخ: «برأيي أن أكبر جريمة في الجمهورية الإسلامية، والتي سيديننا التاريخ بسببها، قد ارتُكبت بأيديكم، وسيسجل التاريخ أسماءكم في المستقبل ضمن أسماء المجرمين»
هذه الحركة، التي حملت لواء "لا نغفر ولا ننسى"، هي التي كسرت جدار الصمت، وجمعت الوثائق والشهادات، حتى اعترف كبار خبراء القانون الدولي، مثل مقرر الأمم المتحدة جاويد رحمان، بأن ما حدث في عام 1988 يرقى إلى "جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية".
ورغم أن هذه لم تكن المرة الأولى، فقد سبق للنظام أن قام بممارسات مماثلة في العديد من المدن مثل الأهواز وتبريز ومشهد، والآن، بعد أن وصلت الحقيقة إلى المحافل الدولية، يلجأ النظام اليائس والمرعوب إلى آخر أسلحته: التدمير المادي لمعالم الجريمة. يهاجمون مقبرة خاوران، ويعبدون فوقها الطرق، واليوم يعلنون بكل صفاقة عن تحويل قبور شهداء الثمانينات في "بهشت زهرا" إلى موقف للسيارات.
لكن هل يظنون حقاً أنهم قادرون على محو التاريخ؟ هنا، يتردد صدى كلمات الشاعر الخالد محمد مهدي الجواهري كإعصار في وجه الطغاة:
«أتَظُنُّ أنَّكَ عِندَما أحرَقتَني ورَقَصتَ كالشَّيطانِ فَوقَ رُفاتي... أتَظُنُّ أنَّكَ قَد طَمَستَ هُوِيَّتي ومَحَوتَ تاريخي ومُعتَقَداتي؟ عَبَثاً تُحاوِلُ... لا فَناءَ لِثائِرٍ... أنا كَالقِيامَةِ ذاتَ يَومٍ آتِ»
إن روح هؤلاء الشهداء لم تمت. لقد عادت وتجسدت في شجاعة كل فتاة تصرخ اليوم في شوارع إيران "المرأة، المقاومة، الحرية"، تصرخ بوجه الطغاة وتشُقُّ الطريق إلى الحرية والمساواة.
إن محاولتكم البائسة لطمس معالم الجريمة لن تزيد الشعب الإيراني إلا إصراراً على تذكر شهدائه والسير على خطاهم. وكما يتردد صوت الشعر، فإن عودة هؤلاء الشهداء وكل من يواصل دربهم حتمية:
«أنا عائدٌ مِن خَيمَةِ ابنِ البادِيَة... مِن صَهوَةِ الجَوَاد... مِن كُتبِ التاريخ... أنا عائدٌ مِن آياتِ القُرآنِ والتَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبُور... أنا عائدٌ كَي أُعيدَ لكُلِّ إنسانٍ هُوِيَّتَه...»
نعم، إنهم عائدون. وقريباً جداً سيأتي اليوم الذي يضع فيه الشعب الإيراني الزهور على قبور شهدائه، ويُكرّم تضحيات أولئك الأبطال الذين رووا بدمائهم شتلة الحرية. وإن ذلك اليوم لقريب؛ يومٌ ستتحول فيه كل قطعة أرض دُفن فيها شهيد إلى مزارٍ مقدسٍ للحرية، وستبقى ذكراهم خالدة في قلب أمة لا تنسى.
 

مشاركة الخبر

الأخبار المتعلقة

تعليقات

لا يوجد تعليقات